الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)} قوله عز وجل: {ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً أن اعبدوا الله} أي وحدوه لا تشركوا به شيئاً {فإذا هم فريقان} أي مؤمن وكافر {يختصمون} أي في الدين كل فريق يقول الحق معنا {قال} يعني صالحاً للفريق المكذب {يا قوم لم تستعجلون بالسيئة} أي بالبلاء والعقوبة {قبل الحسنة} أي العافية الرحمة {لولا} أي هلا {تستغفرون الله} أي بالتوبة إليه من الكفر {لعلكم ترحمون} أي لا تعذبون في الدنيا {قالوا اطيرنا} أي تشاءمنا {بك وبمن معك} قيل: إنما قالوا ذلك لتفرق كلمتهم وقيل: الإمساك القطر عنهم قالوا إما أصابنا هذا الضر والشدة من شؤمك وشؤم أصحابك {قال طائركم عند الله} أي ما يصيبكم من الخير والشر بأمر الله مكتوب عليكم، سمي طائراً لأنه لا شيء أسرع من نزول القضاء المحتوم وقال ابن عباس الشؤم الذي أتاكم من عند الله بكفركم وقيل طائركم أي عملكم، عند الله، سمي طائراً لسرعة صعوده إلى السماء {بل أنتم قوم تفتنون} قال ابن عباس تختبرون بالخير والشر وقيل معناه تعذبون. قوله تعالى {وكان في المدينة} يعني مدينة ثمود وهي الحجر {تسعة رهط} يعني من أبناء أشرافهم {يفسدون في الأرض} أي بالمعاصي {ولا يصلحون} أي لا يطعيون وهم غواة قوم صالح الذي اتفقوا على عقر الناقة ورأسهم قدار بن سالف {قالوا تقاسموا بالله} يعني يقول بعضهم لبيعض احلفوا بالله أيها القوم {لنبيتنه} أي لنقتلنه ليلاً {وأهله} يعني قومه الذين آمنوا معه {ثم لنقولن لوليه} أي لولي دمه {ما شهدنا} يعني ما حضرنا {مهلك أهله} أي ما ندري من قتله ولا هلاك أهله {وإنا لصادقون} يعني قولنا ما شهدنا ذلك.
{وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)} {ومكروا مكراً} أي غدروا غدراً حين قصدوا تبيت صالح وأهله {ومكرنا مكراً} يعني جازيناهم على مكرهم بتعجيل العذاب {وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم} يعني أهلكناهم أي التسعة قال ابن عباس: أرسل الله الملائكة تلك الليلة إلى دار صالح يحرسونه فأتت التسعة دار صالح شاهرين سلاحهم، فرمتهم الملائكة بالحجارة وهم يرون الحجارة ولا يرون الملائكة فقتلتهم وأهلك الله جميع القوم بالصيحة {وقومهم أجمعين، فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا} أي بظلمهم وكفرهم {إن في ذلك لآية} أي لعبرة {لقوم يعلمون} أي قدرتنا {وأنجينا الذي آمنوا، وكانوا يتقون} يقال إن الناجين كانوا أربعة آلاف. قوله تعالى {ولوطاً إذ قال لقومه: أتأتون الفاحشة} أي الفعلة القبيحة {وأنتم تبصرون} أي تعلمون أنها فاحشة هو من بصر القلب وقيل: معناه يبصر بعضكم بعضاً وكانوا لا يستترون عتواً منهم {أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون} فإن قلت إذا فسر تبصرون بالعلم وقد قال: بعده {قوم تجهلون} فيكون العلم جهلاً. قلت: معناه تفعلون فعل الجاهلين وتعلمون أنه فاحشة. وقيل: تجهلون العاقبة وقيل أراد بالجهل السفاهة التي كانوا عليها {فلما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون} يعني من أدبار الرجال {فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين} أي قضينا عليها بأن جعلناها من الباقين في العذاب {وأمطرنا عليهم مطراً} أي الحجارة {فساء} أي فبئس {مطر المنذرين} قوله عز وجل {قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى} هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحمد الله على هلاك كفار الأمم الخالية، وقيل: يحمده على جميع نعمه وسلام على عباده الذين اصطفى يعني الأنبياء والمرسلين وقال ابن عباس: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: هم كل المؤمنين من السابقين واللاحقين {الله خير أما يشركون} فيه تبكيت للمشركين وإلزام الحجة عليهم بعد هلاك الكفار. والمعنى آلله خير لمن عبده أم الأصنام لمن عبدها فإن الله خير لمن عبده وآمن به لإغنائه عنه من الهلاك والأصنام، لم تغن شيئاً عن عابديها عند نزول العذاب، ولهذا السبب ذكر أنواعاً تدل على وحدانيته وكما قدرته. فالنوع الأول قوله تعالى: {أمن خلق السموات والأرض} ذكر أعظم الأشياء المشاهدة الدالة على عظيم قدرته. والمعنى الأصنام خير أم الذي خلق السموات والأرض ثم ذكر نعمه فقال {وأنزل لكم من السماء ماء} يعني المطر {فأنبتنا به حدائق} أي بساتين جمع حديقة، وهو البستان المحيط عليه فإن لم يكن عليه حائط فليس بحديقة {ذات بهجة} أي ذات منظر حسن والبهجة الحسن يبتهج به من يراه {ما كان لكم أن تنبتوا شجرها} يعني ما ينبغي لكم، لأنكم لا تقدرون على ذلك لأن الإنسان قد يقول: أنا المنبت للشجرة بأن أغرسها وأسقيها الماء فأزال هذه الشبهة بقوله {ما كان لكم أن تنبتوا شجرها} لأن إنبات الحدائق المختلفة الأصناف، والطعوم والروائح المختلفة والزروع تسقى بماء واحد، لا يقدر عليه إلا الله تعالى؛ ولا يتأتى لأحد وإن تأتى ذلك لغيره محال {أإله مع الله} يعني هل معه معبود أعانه على صنعه {بل} يعني ليس معه إله ولا شريك {هم قوم} يعني كفار مكة {يعدلون} يشركون وقيل يعدلون عن هذا الحق الظاهر إلى الباطل. النوع الثاني قوله عز وجل {أمن جعل الأرض قراراً} أي دحاها وسواها للاستقرار عليها، وقيل لا تميد بأهلها {وجعل خلالها أنهاراً} أي وسطها بأنهار تطرد بالمياه {وجعل لها رواسي} أي جبالاً ثوابت {وجعل بين البحرين} يعني العذاب والملح {حاجزاً} أي مانعاً لا يختلط أحدهما بالآخر {أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون} أي توحيد ربهم وقدرته وسلطانه. النوع الثالث قوله تعالى {أمن يجب المضطر} أي المكروب المجهود، وقيل: المضرور بالحاجة المحوجة من مرض أو نازلة من نوازل الدهر يعني إذا نزلت بأحد بادر إلى الالتجاء والتضرع إلى الله تعالى وقيل: هو المذنب إذا استغفر {إذا دعاه} يعني فيكشف ضره {ويكشف السوء} أي الضر لأنه لا يقدر على تغيير حال من فقر إلى غنى، ومن مرض إلى صحة ومن ضيق إلى سعة إلا القادر، الذي لا يعجز والقاهر الذي لا يغلب ولا ينازع {ويجعلكم خلفاء الأرض} أي سكانها، وذلك أنه ورثهم سكانها والتصرف فيها قرناً بعد قرن وقيل يجعل أولادكم خلفاء لكم وقيل: جعلكم خلفاء الجن في الأرض {أإله مع الله قليلاً ما تذكرون} أي تتعظون. النوع الرابع قوله عز وجل {أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر} أي يهديكم بالنجوم والعلامات إذا جن عليكم الليل مسافرين في البر والبحر {ومن يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته} أي قدام المطر {أإله مع الله تعالى عما يشركون}
{أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآَخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآَبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78)} النوع الخامس قوله تعالى: {أمن يبدأ الخلق} أي نطفاً في الأرحام {ثم يعيده} بعد الموت {ومن يررقكم من السماء والأرض} أي من السماء بالمطر ومن الأرض بالنبات {إإلهة مع الله قل هاتوا برهانكم} أي حجتكم على قولكم إن مع الله إلهاً آخر {إن كنتم صادقين} قوله تعالى {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله} نزلت في المشركين حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة. والمعنى أن الله هو الذي يعلم الغيب وحده ويعلم متى تقوم الساعة {ما يشعرون أيان يبعثون} يعني أن من في السموات وهم الملائكة ومن في الأرض وهم بنو آدم لا يعلمون متى يبعثون والله تعالى تفرد بعلم ذلك {بل ادارك علمهم} أي بلغ ولحق علمهم {في الآخرة} هو ما جهلوه في الدنيا وسقط عنهم علمه. وقيل بل علموا في الآخرة حين عاينوها ما شكوا فيه وعلموا عنه في الدنيا وهو قوله تعالى {بل هم في شك منها} أي هم اليوم في شك من الساعة {بل هم منها عمون} جمع عم وهو أعمى القلب وقيل معنى الآية أن الله أخبر عنهم إذا بعثوا يوم القيامة يستوي علمهم في الآخرة، وما وعدوا فيها من الثواب والعقاب وإن كانت علومهم مختلفة في الدنيا. قوله تعالى {وقال الذين كفروا} أي مشركو مكة {أإذا كنا تراباً وآباؤنا أإنا لمخرجون} أي من قبورنا أحياء {لقد وعدنا هذا} أي هذا البعث {نحن وآباؤنا من قبل} أي من قبل محمد صلى الله عليه سلم وليس ذلك بشيء {إن هذا} أي ما هذا {إلا أساطير الأولين} أي أحاديثهم وأكاذيبهم التي كتبوها {قيل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين ولا تحزن عليهم} أي بتكذيبهم إياك وإعراضهم عنك. {ولا تكن في ضيق مما يمكرون} نزلت في المستهزئين الذي اقتسموا عقاب مكة {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل عسى أن يكون ردف} أي دنا وقرب {لكم} وقيل معناه ردفكم {بعض الذي تستعجلون} أي من العذاب فحل بهم ذلك يوم بدر. قوله عز وجل {وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم} أي تخفى {وما يعلنون} أي من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم {وما من غائبة} أي من جملة غائبة من مكتوم سر وخفي أمر وشيء غائب {في السماء والأرض إلا في كتاب مبين} يعني في اللوح المحفوظ {إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل} أي يبين لهم {أكثر الذين هم فيه يختلفون} أي من أمر الدين، وذلك أن أهل الكتاب اختلفوا فيما بينهم فصاروا أحزاباً يطعن بعضهم على بعض فنزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه {وإنه} يعني القرآن {لهدى ورحمة للمؤمنين إن ربك يقضي بينهم} أي يفصل بينهم ويحكم بين المختلفين في الدين يوم القيامة {بحكمة} أي الحق {هو العزيز} الممتنع الذي لا يرد له أمر {العليم} أي بأحوالهم فلا يخفى عليه شيء منها.
{فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)} {فتوكل على الله} أي فثق به {إنك على الحق المبين} أي البين {إنك لا تسمع الموتى} يعني موتى القلوب وهم الكفار {ولا تسمع الصم الدعاء، فإذا ولو مدبرين} أي معرضين. فإن قلت ما معنى مدبرين والأصم لا يسمع صوتاً سواء أقبل أو أدبر؟. قلت: هو تأكيد ومبالغة وقيل: إن الأصم إذا كان حاضراً قد يسمع برفع الصوت، أو يفهم بالإشارة فإذا ولى لم يسمع ولم يفهم. ومعنى الآية إنه لفرط إعراضهم عما يدعون إليه كالميت الذي لا سبيل إلى سماعه، وكلأصم الذي لا يسمع ولا يفهم {وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم} معناه ما أنت بمرشد من أعماه الله عن الهدى وأعمى قلبه عن الإيمان {إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا} إلا من يصدق بالقرآن أنه من الله {فهم مسلمون} أي مخلصون. قوله تعالى: {وإذا وقع القول عليهم} يعني إذا وجب عليهم العذاب وقيل: إذا غضب الله عليهم وقيل إذا وجبت الحجة عليهم، وذلك أنهم لم يأمروا بالمعروف، ولم ينهوا عن المنكر وقيل إذا لم يرج صلاحهم وذلك في آخر الزمان قبل قيام الساعة {أخرجنا لهم دابة الأرض}. (م) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «بادروا بالأعمال قبل ست: طلوع الشمس من مغربها والدخان والدجال والدابة وخويصة أحدكم وأمر العامة» (م) عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى، وأيتهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريباً» عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه سلم «تخرج الدابة ومعها خاتم سليمان وعصا موسى فتجلو وجه المؤمن وتخطم أنف الكافر بالخاتم: حتى إن أهل الحق ليجتمعون فيقول هذا يا مؤمن ويقول هذا يا كافر» أخرجه الترمذي. وقال حديث حسن، وروى البغوي بإسناده عن الثعلبي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يكون للدابة ثلاث خرجات من الدهر فتخرج خروجاً بأقصى اليمن فيفشو ذكرها بالبادية لا يدخل ذكرها القرية، يعني مكة ثم تمكث زمناً طويلاً، ثم تخرج خرجة أخرى قريباً من مكة فيفشوا ذكرها بالبادية، ويدخل ذكرها القرية يعني مكة ثم بينا الناس يوماً في أعظم المساجد على الله حرمة، وأكرمها على الله يعني المسجد الحرام لم يرعهم، إلا وهي في ناحية المسجد تدنو وتدنو، كذا قال عمر وما بين الركب الأسود إلى باب بني مخزوم، عن يمين الخارج في وسط من ذلك فارفض الناس عنها وتثبت لها عصابة عرفوا أنهم لم يعجزوا الله، فخرجت عليهم تنفض رأسها من التراب فمرت بهم فجلت وجوههم حتى تركتها كأنها الكواكب الدرية، ثم ولت في الأرض لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب حتى أن الرجل، ليقوم فيعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول يا فلان الآن تصلي فيقبل عليها بوجهه فتسمه في وجهه، فيتجاور الناس في ديارهم ويصطحبون في أسفارهم ويشتركون في الأموال يعرف الكافر من المؤمن فيقال للمؤمن يا مؤمن وللكافر يا كافر» وبإسناد الثعلبي عن حذيفة بن اليمان ذكر رسول الله صلى لله عليه وسلم الدابة قلت: يا رسول الله من أين تخرج قال «من أعظم المساجد حرمة على الله فبينما عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون إذ تضطرب الأرض، وينشق الصفا مما يلي المسعى وتخرج الدابة من الصفا أول ما يخرج منها رأسها ملمعة ذات وبر وريش لن يدركها الطالب، ولن يفوتها هارب تسم الناس مؤمناً وكافراً؛ فأما المؤمن فتترك وجهه كأنه كوكب دري وتكتب بين عينيه مؤمن؛ وأما الكافر فتنكت بين عينيه نكتة سوداء وتكتب بين عينيه كافر» وروي عن ابن عباس أنه قرع الصفا بعصاه وهو محرم وقال: إن الدابة لتسمع قرع عصاي هذه وعن ابن عمر قال تخرج الدابة ليلة جمع الناس ويسيرون إلى منى، وعن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال «بئس الشعب شعب أجياد مرتين أو ثلاثاً قيل: ولم ذلك يا رسول الله؟ قال: تخرج منه الدابة تصرخ ثلاث صرخات يسمعها من بين الخافقين» وروي عن ابن الزبير أنه وصف الدابة فقال: رأسها رأس ثور وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل وقرنها قرن إيل وصدرها صدر أسد ولونها لون نمر وخاصرتها خاصرة هر، وذنبها ذنب كبش وقوائمها قوائم بعير بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعاً. وعن عبدالله بن عمرو قال: تخرج الدابة من شعب أجياد فتمس رأسها السحاب ورجلاها في الأرض وروي عن علي قال: ليست بدابة لها ذنب ولكن لها لحية وقال وهب: وجهها وجه رجل وسائر خلقها كخلق الطير فتخبر من رآها أن أهل مكة، كانوا بمحمد والقرآن لا يوقنون {تكلمهم} أي بكلام فصيح قيل تقول هذا مؤمن وهذا كافر. وقيل: تقول ما أخبر الله تعالى {إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون} تخبر الناس عن أهل مكة أنهم لم يؤمنوا بالقرآن والبعث. وقرئ تكلمهم بتخفيف اللام من الكلم، وهو الجرح وقال ابن الجوزي: سئل ابن عباس عن هذه الآية تكلمهم فقال: كل ذلك تفعل تكلم المؤمن وتكلم الكافر.
{وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآَيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)} قوله تعالى: {ويوم نحشر من كل أمة فوجاً} أي نحشر من كل قرن جماعة {ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون} أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعون ثم يساقوا إلى النار {حتى إذا جاؤوا} يعني يوم القيامة {قال} الله تعالى لهم {أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علماً} أي ولم تعرفوها حق معرفتها {أم ماذا كنتم تعملون} أي حين لم تتفكروا فيها وقيل: معنى الآية أكذبتم بآياتي غير عالمين بها ولم تتفكروا في صحتها بل كنتم بها جاهلين {ووقع القول} أي وجب العذاب {عليهم بما ظلموا} أي بما أشركوا {فهم لا ينطقون} أي بحجة قيل إن أفواههم مختومة {ألم يروا أنا جعلنا} أي أنا خلقنا {الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصراً} أي مضيئاً يبصر فيه. وفي الآية دليل على البعث بعد الموت لأن القادر على قلب الضياء ظلمة، والظلمة ضياء قادر على الإعادة بعد الموت {إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون} أي يصدقون فيعتبرون. قوله تعالى {ويوم ينفخ في الصور} هو قرن ينفخ فيه إسرافيل قال الحسن: الصور هو القرن ومعنى كلامه إن الأرواح تجتمع في القرن ثم ينفخ فيه فتذهب في الأجساد فتحيا بها الأجساد {ففزع} أي فصعق {من في السموات ومن في الأرض} أي ماتوا. والمعنى أنه يلقى عليهم الفزع إلى أن يموتوا. وقيل ينفخ إسرافيل في الصور ثلاث نفخات، نفخة الفزع ونفخة الصعق ونفخة القيام لرب العالمين {إلا من شاء الله} روى أبو هريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله تعالى {إلا من شاء الله} قال «هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول العرش» وقال ابن عباس: هم الشهداء لأنهم أحياء عند ربهم لا يصل إليهم الفزع. وقيل: يعني جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل فلا يبقى بعد النفخة إلا هؤلاء الأربعة ويروى أن الله تعالى يقول لملك الموت خذ نفس إسرافيل فيأخذ نفسه ثم يقول: من بقي يا ملك الموت فيقول: سبحانك ربي تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام، وجهك الباقي الدائم بقي جبريل وميكائيل، وملك الموت فيقول: خذ نفس ميكائيل. فيأخذ نفس ميكائيل فيقع، كالطود العظيم فيقول من بقي من خلقي: فيقول: سبحانك ربي تباركت وتعاليت بقي جبريل، وملك الموت فيقول مت يا ملك الموت فيموت فيقول يا جبريل من بقي فيقول: تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام بقي وجهك الدائم الباقي وجبريل، الميت الفاني فيقول الله: يا جبريل لا بد من موتك فيقع ساجداً يخفق بجناحيه. فيروى أن فضل خلقه على ميكائيل كفضل الطود العظيم على ظرب من الظراب. ويروى أنه يبقى مع هؤلاء الأربعة حملة العرش ثم روح ملك الموت، فإذا لم يبق أحد إلا الله تبارك وتعالى طوى السماء كطي السجل للكتاب ثم يقول الله «أنا الجبار لمن الملك اليوم فلا يجيبه أحد فيقول الله تعالى: لله الواحد القهار» (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ينفخ في الصور فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم ينفخ فيه أخرى، فأكون أول من رفع رأسه فإذا موسى أخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أكان ممن استثنى الله عز وجل أم رفع رأسه قبلي، ومن قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب» وقيل الذين استثنى الله هم رضوان والحور ومالك والزبانية. وقوله تعالى {وكل} أي وكل الذي أحيوا بعد الموت {أتوه} أي جاؤوه {داخرين} أي صاغرين.
{وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)} قوله تعالى {وترى الجبال تحسبها جامدة} أي قائمة واقفة {وهي تمر مر السحاب} أي تسير سير السحاب حتى تقع على الأرض فتستوي بها وذلك أن كل شيء عظيم وكل جسم كبير وكل جمع كثير يقصر عنه البصر لكثرته وعظمه وبعد ما بين أطرافه فهو في حساب الناظر واقف وهو سائر كذلك سير الجبال يوم القيامة لا يرى لعظمها كما أن سير السحاب لا يرى لعظمه {صنع الله الذي أتقن كل شيء} يعني أنه تعالى، لما قدم هذه الأشياء كلها التي لا يقدر عليها غيره جعل ذلك الصنع من الأشياء التي أتقنها وأحكمها وأتى بها على وجه الحكمة والصواب {إنه خبير بما تفعلون}. قوله تعالى {من جاء بالحسنة} أي بكلمة الإخلاص، وهي شهادة أن لا إله إلا الله وقيل الإخلاص في العمل، وقيل الحسنة كل طاعة عملها الله عز وجل {فله خير منها} قال ابن عباس فيها يصل إلى الخير بمعنى أن له من تلك الحسنة خير يوم القيامة وهو الثواب والأمن من العذاب أما من يكون له شيء خير من الإيمان فلا، لأنه لا شيء خير من لا إله إلا الله، وقيل: هو جزاء الأعمال والطاعات الثواب والجنة وجزاء الإيمان والإخلاص رضوان الله والنظر إليه لقوله {ورضوان من الله} وقيل: معنى خير منها الأضعاف أعطاه الله بالواحدة عشر أضعافها، لأن الحسنة استحقاق العبد والتضعيف تفضيل الرب تبارك وتعالى {وهم من فزع يومئذٍ آمنون} فإن قلت كيف نفى الفزع هنا وقد قال قبله ففزع من في السموات ومن في الأرض. قلت: إن الفزع الأول هو ما لا يخلو عنه أحد عند الإحساس بشدة تقع وهول يفجأ من رعب وهيبة وإن كان المحسن يأمن وصول ذلك الضرر إليه فأما الفزع الثاني فهو الخوف من العذاب فهم آمنون منه. وأما ما يلحق الإنسان من الرعب عند مشاهدة الأهوال فلا ينفك منه أحد {ومن جاء بالسيئة} يعني بالشرك {فكبت وجوههم في النار} عبر بالوجه عن جميع البدن كأنه قال كبوا وطرحوا جميعهم في النار {هل تجزون إلا ما كنتم تعملون} أي تقول لهم خزنة جهنم {هل تجزون إلا ما كنتم تعملون} في الدنيا من الشرك. وقوله تعالى {إنما أمرت} يعني يقول الله تعالى لرسوله قل إنما أمرت {أن أعبد رب هذه البلدة} يعني أمرت أن أخص بعبادتي وتوحيدي الله الذي هو رب هذه البلدة يعني مكة، وإنما خصها من بين سائر البلاد بالذكر لأنها مضافة إليه وأحب البلاد وأكرمها عليه، وأشار إليها إشارة تعظيم لأنها موطن نبيه ومهبط وحيه {الذي حرمها} أي جعلها الله حرماً آمناً لا يسفك فيها دم ولا يظلم فيها أحد ولا يصاد صيدها ولا يختلى خلاله ولا يدخلها إلا محرم، وإنما ذكر أنه هو الذي حرمها لأن العرب كانوا معترفين بفضلية مكة، وأن تحريمها من الله لا من الأصنام {وله كل شيء} أي خلقاً وملكاً {وأمرت أن أكون من المسلمين} لله المطيعين له {وأن أتلوا القرآن} أي أمرت أن أتلو القرآن ولقد قام صلى الله عليه وسلم بكل ما أمر به أتم قيام على ما أمر به {فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه} أي نفع اهتدائه يرجع إليه {ومن ضل} أي عن الإيمان وأخطأ طريق الهدى {فقل إنما أنا من المنذرين} أي من المخوفين، وما علي إلا البلاغ نسختها آية القتال {وقل الحمد لله} أي على جميع نعمه، وقيل: على ما وفقني من القيام بأداء الرسالة والإنذار {سيريكم الآية} الباهرة ودلائله القاهرة قيل: هو يوم بدر وهو ما أراهم من القتل والسبي وضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم وقيل: آياته في السموات والأرض وفي أنفسكم {فتعرفونها} أي فتعرفون الآيات والدلالات {وما ربك بغافل عما تعملون} فيه وعيد بالجزاء على أعمالهم والله سبحانه وتعالى أعلم.
{طسم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)} قوله عز وجل {طسم تلك} إشار إلى آيات السورة {آيات الكتاب المبين} قيل هو اللوح المحفوظ وقيل هو الكتاب الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم ووصفه بأنه مبين لأنه بين فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام.
{نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)} {نتلو عليك من نبأ} أي خبر {موسى وفرعون بالحق} أي بصدق {لقوم يؤمنون} أي يصدقون بالقرآن {إن فرعون علا} أي تجبر وتكبر {في الأرض} أي أرض مصر {وجعل أهلها شيعاً} أي فرقاً في أنواع الخدمة والتسخير {يستضعف طائفة منهم} يعني بني إسرائيل {يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم} سمى هذا استضعافاً لأنهم عجزوا وضعفوا عن دفعه عن أنفسهم {إنه كان من المفسدين} أي بالقتل والتجبر في الأرض {ونريد أن نمن} أي ننعم {على الذين استضعفوا في الأرض} يعني بني إسرائيل {وجعلهم أئمة} أي قادة في الخير يقتدى بهم وقيل ولادة ملوكاً {وجعلهم الوارثين} يعين أملاك فرعون، وقومه بأن نجعلهم في مساكنهم {ونمكن لهم في الأرض} أي نوطن لهم أرض مصر والشام، ونجعلها لهم سكناً {ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون} أي يخافون وذلك أنهم أخبروا أن هلاكهم على يد رجل من بني إسرائيل وكانوا على حذر منه فأراهم الله ما كانوا يحذرون. قوله تعالى {وأوحينا إلى أم موسى} هو وحي إلهام، وذلك بأن قذف في قلبها واسمها يوحانذ من نسل لاوي بن يعقوب {أن أرضعيه} قيل أرضعته ثمانية أشهر وقيل أربعة وقيل ثلاثة كانت ترضعه، وهو لا يبكي ولا يتحرك في حجرها {فإذا خفت عليه} أي الذبح {فألقيه في اليم} أي في البحر وأراد نيل مصر {ولا تخافي} أي عليه من الغرق وقيل الضيعة {ولا تحزني} أي على فراقه {إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين} قال ابن عباس إن بني إسرئيل لما كثروا بمصر استطالوا على الناس، وعملوا بالمعاصي ولم يأمروا بالمعروف، ولم ينهوا عن المنكر فسلط القبط فاستضعفوهم إلى أن اجازهم الله على يد نبيه موسى عليه الصلاة والسلام. ذكر القصة في ذلك قال ابن عباس: إن أم موسى لما تقاربت ولادتها، كانت قابلة من القوابل التي وكلهن فرعون بحبالى بني إسرائيل مصافية لأم موسى فلما ضربها الطلق أرسلت إليها، وقالت لها: قد نزل بي ما نزل فلينفعني حبك إياي اليوم، فعالجت قبالها فلما وقع موسى بالأرض هالها نور عيني موسى فارتعشت كل مفصل فيها، ودخل حب موسى قلبها ثم قالت لها يا هذه ما جئت إليك حين دعوتني إلا مرادي قتل ولدك، ولكن وجدت لولدك حباً ما وجدت حب شيء مثل حبه فاحفظي ابنك فإني أراه عدونا فلما خرجت القابلة من عندها أبصرها بعض العيون فجاؤوا إلى بابها ليدخلوا إلى أم موسى، فقالت أخته: يا أماه هذا الحرس بالباب فلفته بخرقة وألقته في التنور وهو مسجور، وطاش عقلها فلم تعقل ما تصنع قال فدخلوا فإذا التنور مسجور ورأوا أم موسى ولم يتغير لها لون، ولم يظهر لها لبن فقالوا ما أدخل القابلة قالت هي مصافية لي فدخلت علي زائرة، فخرجوا من عندها فرجع إليها عقلها فقالت لأخته فأين الصبي؟ فقالت: لا أدري فسمعت بكاء الصبي في التنور فانطلقت إليه وقد جعل الله النار عليه برداً وسلاماً فاحتملته، قال: ثم إن أم موسى لما رأت إلحاح فرعون في طلب الولدان خافت على ابنها، فقذف الله في قلبها أن تتخذ تابوتاً له ثم تقذف التابوت في النيل فانطلقت إلى رجل نجار من قوم فرعون، فاشترت منه تابوتاً صغيراً فقال النجار ما تصنعين بهذا التابوت؟ فقالت: ابن لي أخبئه في التابوت، وكرهت الكذب قال ولم تقل أخشى عليه كيد فرعون، فلما اشترت التابوت وحملته، وانطلقت به انطلق النجار إلى الذباحين ليخبرهم بأمر أم موسى فلما هم بالكلام أمسك الله لسانه، فلم يطلق الكلام وجعل يشير بيديه فلم تدر الأمناء ما يقول، فلما أعياهم أمره قال كبيرهم: اضربوه فضربوه وأخرجوه فلما انتهى النجار إلى موضعه رد الله عليه لسانه فتكلم فانطلق أيضاً يريد الأمناء فأتاهم ليخبرهم فأخذ الله لسانه وبصره فلم يطق الكلام، ولم يبصر شيئاً فضربوه وأخرجوه، وبقي حيران فجعل لله عليه إن رد عليه لسانه وبصره أن لا يدل عليه وأن يكون معه فيحفظه، حيثما كان فعرف الله صدقه فرد عليه لسانه وبصره فخر لله ساجداً فقال يا رب: دلني على هذا العبد الصالح فدله عليه فآمن به وصدقه وقال وهب لما حملت أم موسى بموسى، كتمت أمرها عن جميع الناس فلم يطلع على حملها أحد من خلق الله تعالى وذلك شيء ستره الله تعالى لما أراد أن يمن به على بني إسرائيل فلما كانت السنة التي ولد فيها، بعث فرعون القوابل وتقدم الأمين ففتش النساء تفتيشاً لم يفتش قبل ذلك مثله، وحملت بموسى ولم يتغير لونها ولم ينب بطنها فكانت القوابل لا تتعرض لها فلما كانت الليلة التي ولد فيها ولدته ولا رقيب عليها ولا قابلة ولم يطلع عليها أحد إلا أخته مريم وأوحى الله إليها {أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم} فكتمته ثلاثة أشهر فلما خافت عليه عملت تابوتاً، مطبقاً، ثم ألقته في اليم وهو البحر ليلاً. قال ابن عباس وغيره: كان لفرعون يومئذ بنت ولم يكن له ولد غيرها وكانت من أكرم الناس عليه وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها إليه وكان لها برص شديد كان فرعون قد جمع الأطباء والسحرة فنظروا في أمرها فقالوا: أيها الملك لا تبرأ إلا من قبل البحر يوجد فيه شبه الإنسان فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ من ذلك وذلك في يوم كذا في ساعة كذا حين تشرق الشمس فلما كان ذلك اليوم غداً فرعون إلى مجلس كان له على شفير النيل ومعه امرأته آسية بنت مزاحم وأقبلت بنت فرعون في جواريها حتى جلست على شاطئ البحر مع جاوريها تلاعبهن وتنضح المساء على وجوههن إذ أقبل النيل بالتابوت تضربه الأمواج فقال فرعون: إن هذا الشيء في البحر قد تعلق بالشجر أئتوني به فابتدروه بالسفن من كل ناحية حتى وضعوه بين يديه فعالجوا فتح الباب فلم يقدروا عليه وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه. فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نوراً لم يره غيرها فعالجته ففتحت الباب فإذا هي بصبي صغير في التابوت وإذا نور بين عينيه وقد جعل الله رزقه في إبهامه يمص منه لبناً فألقى الله محبته في قلب آسية وأحبه فرعون وعطف عليه. وأقبلت بنت فرعون فلما أخرجوا الصبي من التابوت عمدت إلى ما يسيل من أشداقه من ريقه فلطخت به برصها فبرأت ثم قبلته وضمته إلى صدرها فقالت: الغواة من قوم فرعون أيها الملك إنا نظن أن ذلك المولود الذي تحذر منه من بني إسرائيل هو هذا رمي به في البحر فزعاً منك فهم فرعون بقتله فقالت آسية: قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أي فنصيب منه خيراً أو نتخذه ولداً وكانت لا تلد فاستوهبت موسى من فرعون فوهبه لها. وقال فرعون: أما أنا فلا حاجة لي فيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو قال يومئذٍ قرة عين لي كما هو لك لهداه الله كما هداها الله» فقيل لآسية سميه فقالت سميته موسى لأنا وجدناه في الماء والشجر لأن موسى هو الماء وهو الشجر.
{فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12)} قوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون} الالتقاط هو وجود الشيء من غير طلب {ليكون لهم عدواً وحزناً} أي عاقبة أمرهم إلى ذلك لأنهم لم يلتقطوه ليكون لهم عدواً وحزناً {إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين} أي آثمين وقيل: هو من الخطأ ومعناه أنهم لم يشعروا أنه الذي يذهب بملكهم {وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً ولا يشعرون} قال وهب لما نظر إليه فرعون قال عبراني من الأعداء فغاظه ذلك وقال كيف أخطأ هذا الغلام الذبح وكانت آسية امرأة فرعون من خيار النساء ومن بنات الأنبياء. وكانت اماً للمساكين ترحمهم وتتصدق عليهم فقالت لفرعون وهي قاعدة إلى جنبه هذا الوليد أكبر من ابن سنة وأنت أمرت أن تذبح ولدان هذه السنة فدعه يكون عندي. وقيل: إنها قالت إنه أتانا من أرض أخرى وليس هو من بني إسرائيل فاستحياه فرعون وألقى الله محبته عليه قال ابن عباس لو أن عدو الله قال في موسى كما قالت آسية عسى أن ينفعنا لنفعه الله ولكنه أبى للشقاء الذي كتبه الله عليه قوله تعالى {وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً} أي خالياً من كل شيء إلا من ذكر موسى وهمه وقيل معناه ناسياً للوحي الذي أوحى الله عز وجل إليه حين أمرها أن تلقيه في اليم ولا تخاف ولا تحزن والعهد الذي عهد إليها أن يرده إليها ويجعله من المرسلين، فجاءها الشيطان وقال كرهت أن يقتل فرعون ولدك فيكون لك أجره وثوابه وتوليت أنت قتله وألقيته في البحر وأغرقته. ولما أتاها الخبر بأن فرعون أصابه في النيل قالت إنه قد وقع في يد عدوه الذي فررت منه فأنساه عظم البلاء ما كان من عهد الله إليها {إن كادت لتبدي به} أي لتصرح بأنه ابنها من شدة وجلها. قال ابن عباس كادت تقول وا ابناه وقيل لما رأت التابوت ترفعه موجة وتحطه أخرى خشيت عليه الغرق فكادت تصيح من شدة شفقتها عليه. وقيل كادت تظهر أنه ابنها حين سمعت الناس يقولون موسى ابن فرعون فشق عليها ذلك وكادت تقول هو ابني وقيل كادت تبدي بالوحي الذي أوحى إليها {لولا أن ربطنا على قلبها} أي بالعصمة والصبر والتثبت {لتكون من المؤمنين} أي من المصدقين بوعد الله إياها {وقالت لأخته} أي لمريم أخت موسى {قصيه} أي اتبعي أثره حتى تعطي خبره {فبصرت به عن جنب} أي عن بعد قيل كانت تمشي جانباً وتنظره اختلاساً ترى أنها لا تنظره {وهم لا يشعرون} أنها أخته وأنها ترقبه {وحرمنا عليه المراضع} المراد به المنع قيل مكث موسى ثمان ليال لا يقبل ثدياً قال ابن عباس إن امرأة فرعون كان همها من الدنيا أن تجد من ترضعه كلما أتوا بمرضعة لم يأخذ ثديها وهم في طلب من يرضعه لهم {من قبل} أي قبل مجيء أم موسى وذلك لما رأته أخت موسى التي أرسلتها أمه في طلب ذلك {فقالت} يعني أخت موسى {هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم} أي يضمونه ويرضعونه وهي امرأة قتل ولدها فأحب ما تدعى إليه أن تجد صغيراً ترضعه {وهم له ناصحون} أي لا يمنعونه ما ينفعه من تربيته وغذائه والنصح إخلاص العمل من شوائب الفساد. قيل لما قالت وهم له ناصحون قالوا: إنك قد عرفت هذا الغلام فدلينا على أهله قالت ما أعرفه ولكن قلت وهم للملك ناصحون وقيل: إنها قالت إنما قلت ذلك رغبة في سرور الملك واتصالنا به. وقيل قالوا من هم قالت أمي قالوا ولأمك ولد قالت نعم هارون وكان هارون ولد في السنة التي لا يقتل فيها قالوا صدقت فأتينا بها فانطلقت إليها وأخبرتها بحال ابنها وجاءت بها إليهم فلما وجد الصبي ريح أمه قبل ثديها وجعل يمصه حتى امتلأ جنباه رياً قيل كانوا يعطونها كل يوم ديناراً.
{فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18)} قوله تعالى: {فرددناه إلى أمه كي تقر عينها} أي برد موسى إليها {ولا تحزن} أي لئلا تحزن {ولتعلم أن وعد الله حق} أي برده إليها {ولكن أكثرهم لا يعلمون} أن الله وعدها أن يرده إليها {ولما بلغ أشده} قيل الأشد ما بين ثمانية عشر إلى ثلاثين سنة وقيل الأشد ثلاث وثلاثون سنة {واستوى} أي بلغ أربعين سنة قاله ابن عباس: وقيل انتهى شبابه وتكامل {آتيناه حكماً وعلماً} أي عقلاً وفهماً في الدين فعلم وحكم موسى قبل أن يبعث نبياً {وكذلك نجزي المحسنين} قوله تعالى {ودخل المدينة} يعني موسى والمدينة قيل هي منف من أعمال مصر وقيل هي قرية يقال لها حابين على رأس فرسخين من مصر وقيل هي مدينة شمس {على حين غفلة من أهلها} قيل هي نصف النهار واشتغال الناس بالقيلولة وقيل دخلها ما بين المغرب والعشاء وقيل سبب دخول المدينة في ذلك الوقت أن موسى كان يسمى ابن فرعون وكان يركب في مراكب فرعون ويلبس لباسه فركب فرعون يوماً وكان موسى غائباً فلما جاء قيل له إن فرعون قد ركب فركب موسى في أثره فأدركه المقيل بأرض منف فدخلها وليس في أطرافها أحد. وقيل كان لموسى شيعة من بني إسرائيل يسمعون منه ويقتدون به فلما عرف ما هو عليه من الحق رأى فراق فرعون وقومه فخالقهم في دينه حتى أنكروا ذلك منه وخافوه وخافهم فكان لا يدخل قرية إلا خائفاً مستخفياً على حين غفلة من أهلها. وقيل لما ضرب موسى فرعون بالعصا في صغره فأراد فرعون قتله قالت امرأته هو صغير فتركه وأمر بإخراجه من مدينته فأخرج منه فلم يدخل عليهم حتى كبر وبلغ أشده فدخل على حين غفلة من أهلها يعني عن ذكر موسى ونسيانهم خبره ولبعد عهدهم به. وعن علي أنه كان يوم عيد لهم قد اشتغلوا بلهوهم ولعبهم {فوجد فيها رجلين يقتتلان} أي يتخاصمان ويتنازعان {هذا من شعيته} أي من بني إسرائيل {وهذا من عدوه} يعني من القبط وقيل هذا مؤمن وهذا كافر وقيل الذي كان من الشيعة هو السامري والذي من عدوه هو طباخ فرعون واسمه فاتون وكان القبطي يريد أن يأخذ الإسرائيلي يحمله الحطب. وقال ابن عباس: لما بلغ موسى أشده لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل بظلم حتى امتنعوا كل الامتناع وكان بنو إسرائيل قد عزوا بمكان موسى لأنهم كانوا يعلمون أنه منهم فوجد موسى رجلين يقتلان أحدهما من بني إسرائيل والآخر من القبط {فاستغاثه الذي من شيعته} يعني الإسرائيلي {على الذي من عدوه} يعني الفرعوني والاستغاثة طلب الغوث والمعنى أنه سأله أن يخلصه منه وأن ينصره عليه فغضب موسى واشتد غضبه لأنه أخذه وهو يعلم منزلة موسى من بني إسرائيل وحفظه لهم ولا يعلم الناس إلا أنه من قبل الرضاعة فقال موسى للفرعوني: خلِّ سبيله فقال: إنما أخذته ليحمل الحطب إلى مطبخ أبيك فنازعه فقال الفرعوني لقد هممت أن أحمله عليك وكان موسى قد أوتي بسطة في الخلق وشدة في القوة {فوكزه موسى} يعني ضربه بجميع كفه وقيل الوكز الضرب في الصدر وقيل الوكز الدفع بأطراف الأصابع {فقضى عليه} يعني قتله وفرغ من أمره فندم موسى عليه ولم يكن قصد القتل فدفنه في الرمل {قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين} يعني بين الضلالة وقيل في قوله هذا إشارة إلى عمل المقتول لا إلى عمل نفسه، والمعنى أن عمل هذا المقتول من عمل الشيطان والمراد منه بيان كونه مخالفاً لله سبحانه وتعالى مستحقاً للقتل وقيل هذا إشارة إلى المقتول يعني أنه من جند الشيطان وحزبه {قال رب إني ظلمت نفسي} يعني بقتل القبطي من غير أمر وقيل هو على سبيل الاتضاع لله تعالى والاعتراف بالتقصير عن القيام بحقوقه وإن لم يكن هناك ذنب. وقوله {فاغفر لي} يعني ترك هذا المندوب وقيل يحتمل أن يكون المراد {رب إن ظلمت نفسي} حيث فعل هذا فإن فرعون إذا عرف ذلك قتلني به فقال أي فاستره علي ولا توصل خبره إلى فرعون {فغفر له} أي فستره عن الوصول إلى فرعون {إنه هو الغفور الرحيم قال رب بما} أي بالمغفرة والستر الذي {أنعمت عليَّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين} معناه فأنا لا أكون معاوناً لأحد من المجرمين قال ابن عباس الكافرين وفيه دليل على أن الإسرائيلي الذي أعانه موسى كان كافراً. قال ابن عباس لم يستثن فابتلي في اليوم الثاني أي لم يقل فلم أكن إن شاء الله ظهيراً للمجرمين {فأصبح في المدينة} أي التي قتل فيها القبطي {خائفاً يترقب} أي ينتظر سوءاً والترقب انتظار المكروه وقيل ينتظر متى يؤخذ به {فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه} أي يستغيث به من بعد. قال ابن عباس: أتي فرعون فقيل له إن بني إسرائيل قتلوا منا رجلاً فخذ لنا بحقنا فقال اطلبوا قاتله ومن يشهد عليه فبينما هم يطوفون لا يجدون بينة إذ مر موسى من الغد فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونياً فاستغاثه على الفرعوني وكان موسى قد ندم على ما كان منه بالأمس من قتل القبطي {قال له موسى} للإسرائيلي {إنك لغوي مبين} أي ظاهر الغواية قاتلت رجلاً بالأمس فقتلته بسببك وتقاتل اليوم آخر وتستغيثني عليه.
{فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)} {فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما} وذلك أن موسى أخذته الغيرة والرقة للإسرائيلي فمد يده ليبطش بالقبطي فظن الإسرائيلي أنه يريد أن يبطش به لما رأى من غضب موسى وسمع قوله إنك لغوي مبين {قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس} معناه أنه لم يكن علم أحد من قوم فرعون أن موسى هو الذي قتل القبطي حتى أفشى عليه الإسرائيلي ذلك فسمعه القبطي فأتى فرعون فأخبره بذلك {إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض} أي بالقتل ظلماً وقيل الجبار هو الذي يقتل ويضرب ولا ينظر في العواقب وقيل هو الذي يتعاظم ولا يتواضع لأمر الله تعالى {وما تريد أن تكون من المصلحين} ولما فشا أن موسى قتل القبطي أمر فرعون بقتله فخرجوا في طلبه وسمع بذلك رجل من شيعة موسى يقال إنه مؤمن آل فرعون واسمه حزقيل وقيل شمعون وقيل سمعان وهو قوله تعالى {وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى} أي يسرع في مشيه وأخذ طريقاً قريباً حتى سبق إلى موسى وأخبره وأنذره بما سمع {قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك} يعني يتشاورون فيك {ليقتلوك} وقيل يأمر بعضهم بعضاً بقتلك {فاخرج} يعني من المدينة {إني لك من الناصحين} يعني في الأمر بالخروج {فخرج منها} يعني موسى {خائفاً} على نفسه من آل فرعون {يترقب} يعني ينتظر الطلب هل يلحقه فيأخذه ثم لجأ إلى الله تعالى لعلمه أنه لا ملجأ إلا إليه {قال رب نجني من القوم الظالمين} يعني الكافرين. وقوله تعالى {ولما توجه تلقاء مدين} يعني قصد نحوها ماضياً قيل إنه وقع في نفسه أن بينهم وبينه قرابة لأن أهل مدين من ولد إبراهيم وموسى من ولد إبراهيم ومدين هو مدين بن إبراهيم سميت البلد باسمه وبين مدين ومصر مسيرة ثمانية أيام، قيل خرج موسى خائفاً بلا ظهر ولا زاد ولا أحد ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر ونبات الأرض حتى رأى خضرته في بطنه وما وصل إلى مدين حتى وقع خف قدميه قال ابن عباس وهو أول ابتلاء من الله لموسى {قال} يعني موسى {عسى ربي أن يهديني سواء السبيل} يعني قصد الطريق إلى مدين وذلك أنه لم يكن يعرف الطريق إليها قيل لما دعا موسى جاءه ملك بيده عنزة فانطلق به إلى مدين. قوله عز وجل {ولما ورد ماء مدين} هو بئر كانوا يسقون منها مواشيهم {وجد عليه} يعني على الماء {أمة} يعني جماعة {من الناس يسقون} يعني مواشيهم {ووجد من دونهم} يعني سوى الجماعة وقيل بعيداً من الجماعة {امرأتين تذودان} أي تحبسان وتمنعان أغنامهما عن أن تند وتذهب والقول الأول لما بعده وهو قوله {قال} يعني موسى للمرأتين {ما خطبكما} أي ما شأنكما لا تسقيان مواشيكما مع الناس {قالتا لا نسقي} يعني أغنامنا {حتى يصدر الرعاء} أي حتى يرجع الرعاء من الماء والمعنى أنا امرأتان لا نستطيع أن نزاحم الرجال فإذا صدروا سقينا نحن مواشينا من فضل ما بقي منهم من الحوض {وأبونا شيخ كبير} أي لا يقدر أن يسقي مواشيه فلذلك احتجنا نحن إلى سقي الغنم، قيل أبوهما هو شعيب عليه الصلاة السلام. وقيل هو بيرون ابن أخي شعيب وكان شعيب قد مات بعدما كف بصره وقيل هو رجل ممن آمن بشعيب فلما سمع موسى كلامهما رق لهما ورحمهما فاقتلع صخرة من على رأس بئر أخرى كانت بقربهما لا يطيق رفعها إلا جماعة من الناس. وقيل زاحم القوم ونحاهم كلهم عن البئر وسقى لهما الغنم وقيل لما فرغ الرعاء من السقي غطوا رأس البئر بحجر لا يرفعه إلا عشرة نفر فجاء موسى فرفع الحجر ونزع دلواً واحداً فيه بالبركة وسقى الغنم فرويت فذلك قوله {فسقى لهما ثم تولى إلى الظل} يعني عدل إلي رأس الشجرة فجلس في ظلها من شدة الحر وهو جائع {فقال رب لما أنزلت إلي من خير فقير} معناه أنه طلب الطعام لجوعه واحتياجه إليه. قال ابن عباس: إن موسى سأل الله فلقة خبز يقيم بها صلبة وعن ابن عباس قال: لقد قال موسى: {رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير} وهو أكرم خلقه عليه ولقد افتقر إلى شق تمرة وقيل ما سأل إلا الخبز فلما رجعتا إلى أبيهما سريعاً قبل الناس وأغنامهما حفل بطان قال لهما ما أعجلكما؟ قالتا وجدنا رجلاً صالحاً رحمنا فسقى لنا أغنامنا فقال لإحداهما اذهبي فادعيه إلي.
{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)} قال الله تعالى: {فجاءته إحداهما تمشي على استحياء} قيل هي الكبرى واسمها صفوراء وقيل صفراء وقيل بل هي الصغرى واسمها ليا وقيل صفيراء وقال عمر بن الخطاب ليست بسلفع من النساء خراجة ولاجة ولكن جاءت مستترة قد وضعت كم درعها على وجهها استحياء وقيل استحيت منه لأنها دعته لتكافئه وقيل لأنها رسول أبيها {قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا} قيل لما سمع موسى ذلك كره أن يذهب معها ولكن كان جائعاً فلم يجد بداً من الذهاب فمشت المرأة ومشى موسى خلفها فكان الريح تضرب ثوبها فتصف ردفها فكره موسى أن يرى ذلك منها فقال امشي خلفي ودليني على الطريق إذا أخطأت ففعلت ذلك فلما دخل موسى على شعيب إذ هو بالعشاء مهيئاً فقال: اجلس يا فتى فتعش فقال موسى أعوذ بالله فقال شعيب ولم ذاك ألست جائع؟ قال بلى ولكني أخاف أن يكون هذا عوضاً من الدنيا فقال له شعيب: لا والله يا فتى لكنها عادتي وعادة آبائي نقري الضيف ونطعم الطعام فجلس وأكل فذلك قوله عز وجل {فلما جاءه} أي موسى {وقص عليه القصص} أي أخبره بأمره أجمع من خبر ولادته وقتله القبطي وقصد فرعون قتله {قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين} يعني من فرعون وقومه وإنما قال ذلك لأنه لم يكن لفرعون سلطان على مدين {قالت إحداهما يا أبت استأجره} أي اتخذه أجيراً ليرعى أغنامنا {إن خير من استأجرت القوي الأمين} يعني إن خير من استعملت من قوي على العمل وأدى الأمانة فقال لها أبوها ما أعلمك بقوته وأمانته؟ قالت أما قوته فإنه رفع الحجر من على رأس البئر ولا يرفعه إلا عشرة. وقيل أربعون رجلاً وأما أمانته فإنه قال لي امشي خلفي حتى لا تصف الريح بدنك {قال} شعيب عند ذلك {إني أريد أن أنكحك} أي أزوجك {إحدى ابنتي هاتين} قيل زوجه الكبرى وقال الأكثرون إنه زوجه الصغرى منها واسمها صفوراء وهي التي ذهبت في طلب موسى {على أن تأجرني ثمان حجج} أي تكون لي أجيراً ثمان سنين {فإن أتممت عشراً فمن عندك} أي فإن أتممت العشر سنين فذلك تفضل منك وتبرع ليس بواجب عليك {وما أريد أن أشق عليك} أي ألزمك تمام العشر إلا أن تتبرع {ستجدني إن شاء الله من الصالحين} أي في حسن الصحبة والوفاء بما قلت وقيل يريد بالصلاح حسن المعاملة ولين الجانب وإنما قال إن شاء الله للاتكال على توفيقه ومعونته {قال} يعني موسى {ذلك بيني وبينك} يعني ما شرطت علي فلك وما شرطت من تزوج إحداهما فلي والأمر بيننا على ذلك {أيما الأجلين قضيت} أي أيّ الأجلين أتممت وفرغت منه الثمانية أو العشرة {فلا عدوان علي} أي لا ظلم علي بأن أطالب بأكثر منه {والله على ما نقول وكيل} قال ابن عباس شهيد بيني وبينك (خ) عن سعيد بن جبير قال: سألني يهودي من أهل الحيرة أي الأجلين قضى موسى؟ قلت لا أدري حتى أقدم على خير العرب فاسأله فقدمت فسألت ابن عباس: فقال قضى أكثرهما وأطيبهما لأن رسول الله إذا قال فعل وروي عن أبي ذر مرفوعاً: «إذا سئلت أي الأجلين قضى موسى فقل خيرهما وأبرهما وإذا سئلت أي المرأتين تزوج فقل الصغرى منهما وهي التي جاءت فقالت يا أبت استأجره فتزوج صغراهما وقضى أوفاهما». وقال وهب أنكحه الكبرى وروى شداد بن أوس مرفوعاً بكى شعيب النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى عمي فرد الله عليه بصره ثم بكى حتى عمي فرد الله عليه بصره ثم بكى حتى عمي فرد الله عليه بصره فقال الله له: ما هذا البكاء أشوقاً إلى الجنة أم خوفاً من النار فقال: لا يا رب ولكن شوقاً إلى لقائك فأوحى الله إليه إن يكن ذلك فهنيئاً لك لقائي يا شعيب لذلك أخدمتك كليمي موسى ولما تعاقدا هذا العقد بينهما أمر شعيب ابنته أن تعطي موسى عصاه يدفع بها السباع عن غنمة قيل كانت من آس الجنة حملها آدم معهه فتوارثها الأنبياء وكان لا يأخذها غير نبي إلا أكلته فصارت من آدم إلى نوح ثم إلى إبراهيم حتى وصلت إلى شعيب فأعطاها موسى. ثم إن موسى لما قضى الأجل سلم شعيب إليه ابنته فقال لها موسى اطلبي من أبيك أن يجعل لنا بعض الغنم فطلبت من أبيها ذلك فقال لكما كل ما ولدت هذا العام على غير شيتها وقيل إن شعيباً أراد أن يجازي موسى على حسن رعيه إكراماً وصلة لا بنته فقال له: إني قد وهبت لك ولد أغنامي كل أبلق وبلقاء في هذه السنة فأوحى الله تعالى إلى موسى في النوم أن أضرب بعصاك الماء، ثم اسق الأغنام منه ففعل ذلك فما أخطأت واحدة إلا وضعت حملها مابين أبلق وبلقاء فعلم شعيب أن هذا رزق ساقه الله إلى موسى وامرأته فوفى له بشرطه وأعطاه الأغنام.
{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآَمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)} قوله عز وجل: {فلما قضى موسى الأجل} أي أتمه وفرغ منه {وسار بأهله} قيل مكث موسى بعد الأجل عند شعيب عشر سنين أخرى ثم استأذنه في العود إلى مصر فأذن له فسار بأهله أي زوجته قاصداً إلى مصر {آنس} أي أبصر {من جانب الطور ناراً} وذلك أنه كان في البرية في ليلة مظلمة شديدة البرد وأخذ امرأته الطلق {قال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بخبر} أي عن الطريق لأنه كان قد أخطأ الطريق {أو جذوة من النار} أي قطعة وشعلة من النار وقيل: الجذوة العود الذي اشتعل بعضه {لعلكم تصطلون} أي تستدفئون {فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن} يعني من جانب الوادي الذي عن يمين موسى {في البقعة المباركة} جعلها الله مباركة لأن الله تعالى كلم موسى هناك وبعثه نبياً وقيل يريد البقعة المقدسة {من الشجرة} يعني من ناحية الشجرة قال ابن مسعود: كانت سمرة خضراء تبرق وقيل كانت غوسجة وقيل كانت من العليق وعن ابن عباس إنها العناب {أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين} قيل إن موسى لم رأى النار في الشجرة الخضراء علم أنه لا يقدرعلى الجمع بين النار وخضرة الشجرة إلا الله تعالى فعلم بذلك أن المتكلم هو الله تعالى. وقيل: إن الله تعالى خلق في نفس موسى علماً ضرورياً بأن المتكلم هو الله وأن ذلك الكلام كلام الله تعالى. وقيل: إنه قيل لموسى كيف عرفت أنه نداء الله قال إني سمعته بجميع أجزائي فلما وجد حس السمع من جميع الأجزاء علم بذلك أنه لا يقدر عليه أحد إلا الله تعالى {وأن ألق عصاك} يعني فألقاها {فلما رآها تهتز} يعني تتحرك {كأنها جان} هي الحية الصغيرة والمعنى أنها في سرعة حركتها كالحية السريعة الحركة {ولى مدبراً} يعني هارباً منها {ولم يعقب} يعني ولم يرجع قال وهب إنها لم تدع شجرة، ولا صخرة إلا بلعتها حتى إن موسى سمع صرير أسنانها وقعقعة الشجر والصخر في جوفها فحينئذ ولى مدبراً ولم يعقب فنودي عند ذلك {يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين}. قوله عز وجل {اسلك يدك} يعني أدخل يدك {في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء} يعني برص والمعنى أنه أدخل يده فخرجت ولها شعاع كضوء الشمس {واضمم إليك جناحك من الرهب} يعني من الخوف والمعنى إذا هالك أمر يدك وما تراه من شعاعها فأدخلها في جيبك تعد إلى حالتها الأولى وقال ابن عباس: أمر الله موسى أن يضم يده إلى صدره فيذهب عنه ما ناله من الخوف عند معاينة الحية وما من خائف بعد موسى إلا إذا وضع يده صدره زال خوفه. وقيل المراد من ضم الجناح السكون أي سكن روعك واخفض عليك جناحك لأن من شأن الخائف أن يضطرب قلبه ويرتعد بدنه. وقيل الرهب الكم بلغة حمير ومعناه اضمم إليك يدك وأخرجها من كمك لأنه تناول العصا ويده في كمه {فذانك} يعني العصا واليد البيضاء {برهانان} يعني آيتان {من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوماً فاسقين} يعني خارجين عن الحق {قال رب إني قتلت منهم نفساً} يعني القبطي {فأخاف أن يقتلون} يعني به {وأخي هارون هو أفصح مني لساناً} يعني بياناً وإنما قال ذلك للعقدة التي كانت في لسانه من وضع الجمرة في فيه {فأرسله معي ردءاً} يعني عوناً {يصدقني} يعني فرعون وقيل تصديق هارون هو أن يخلص الدلائل ويجيب عن الشبهات ويجادل الكفار فهذا هو التصديق المفيد {إني أخاف أن يكذبون} يعني فرعون وقومه {قال سنشد عضدك بأخيك} يعني سنقويك به وكان هارون بمصر {ونجعل لكما سلطاناً} يعني حجة وبرهاناً {فلا يصلان إليكما} أي بقتل ولا سوء {بآياتنا} قيل معناه نعطيكما من المعجزات فلا يصلون إليكما {أنتما ومن اتبعكما الغالبون} يعني لكما ولأتباعكما الغلبة على فرعون وقومه.
{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)} {فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات} يعني واضحات {قالوا ما هذا إلا سحر مفترى} يعني مختلق {وما سمعنا بهذا} يعني بالذي تدعونا إليه {في آبائنا الأولين وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده} يعني أنه يعلم المحق من المبطل {ومن تكون له عاقبة الدار} يعني العقبى المحمودة في الدار الآخرة {إنه لا يفلح الظالمون} يعني الكافرون {وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري} فيه إنكار لما جاء به موسى من توحيد الله وعبادته {فأوقد لي يا هامان على الطين} يعني اطبخ لي الآجر قيل إنه أول من اتخذ آجراً وبنى به {فاجعل لي صرحاً} أي قصراً عالياً وقيل منارة. قال أهل السير لما أمر فرعون وزيره هامان ببناء الصرح جمع هامان المال والفعلة حتى اجتمع عنده خمسون ألف بناء سوى الأتباع والأجراء وطبخ الآجر والجص ونجر الخشب وضرب المسامير، وأمر بالبناء فبنوه ورفعوه وشيدوه حتى ارتفع ارتفاعاً لم يبلغه بنيان أحد من الخلق وأراد الله أن يفتنهم فيه فلما فرغوا منه ارتقى فرعون فوقه، وأمر نشابة فرمى بها نحو السماء فردت إليه وهي ملطخة دماً فقال: قد قتلت إله موسى وكان فرعون يصعده راكباً على البراذين فبعث الله جبريل عند غروب الشمس فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع فوقعت قطعه منه على عسكره فقتلت منه ألف رجل ووقعت قطعه منه في البحر وقطعة في المغرب فلم يبق أحد عمل شيئاً فيه إلا هلك فذلك قوله {لعلي أطلع إلى إله موسى} يعني أنظر إليه وأقف على حاله {وإني لأظنه} يعني موسى {من الكاذبين} يعني في زعمه أن للأرض والخلق إلهاً غيري وأنه أرسله {واستكبر هو وجنوده في الأرض} يعني تعظموا عن الإيمان ولم ينقادوا للحق بالباطل والظلم {بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون} يعني للحساب والجزاء {فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم} يعني فألقيناهم في البحر وهو القلزم {فانظر كيف كان عاقبة الظالمين} يعني حين صاروا إلى الهلاك {وجعلناهم أئمة} يعني قادة ورؤساء {يدعون إلى النار} أي الكفر والمعاصي التي يستحقون به النار لأن من أطاعهم ضل ودخل النار {ويوم القيامة لا ينصرون} يعني لا يمنعون من العذاب {وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة} يعني خزياً وبعداً وعذاباً {ويوم القيامة هم من المقبوحين} يعني المبعدين وقيل المهلكين. وقال ابن عباس من المشوهين بسواد الوجوه وزرقة العيون. وقوله عز وجل {ولقد آتينا موسى الكتاب} يعني التوراة {من بعد ما أهلكنا القرون الأولى} يعني قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ممن كانوا قبل موسى {بصائر للناس} ليبصروا ذلك فيهتدوا به {وهدى} يعني من الضلالة لمن عمل به {ورحمة} يعني لمن آمن به {لعلهم يتذكرون} يعني بما فيه من المواعظ {وما كنت} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي وما كنت يا محمد {بجانب الغربي} يعني بجانب الجبل الغربي قال ابن عباس يريد حيث ناجى موسى ربه {إذ قضينا إلى موسى الأمر} يعني عهدنا إليه وأحكمنا الأمر معه بالرسالة إلى فرعون {وما كنت من الشاهدين} يعني الحاضرين ذلك المقام الذي أوحينا إلى موسى فيه فتذكره من ذات نفسك {ولكنا أنشأنا قروناً} يعني خلقنا بعد موسى أمماً {فتطاول عليهم العمر} يعني طالت عليهم المدة فنسوا عهد الله وتركوا أمره وذلك أن الله عهد إلى موسى وقومه عهوداً في محمد والإيمان به فلما طال عليهم العمر وخلفت القرون بعد القرون نسوا تلك العهود وتركوا الوفاء بها {وما كنت ثاوياً} أي مقيماً {في أهل مدين} أي كمقام موسى وشعيب فيهم {تتلوا عليهم آياتنا} يعني تذكرهم بالوعد والوعيد وقيل معناه لم تشهد أهل مدين فتقرأ على أهل مكة خبرهم {ولكنا كنا مرسلين} أي أرسلناك رسولاً وأنزلنا إليك كتاباً فيه هذه الأخبار لتتلوها عليه ولولا ذلك لما علمتها أنت ولم تخبرهم بها.
{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53)} {وما كنت بجانب الطور} أي بناحية الجبل الذي كلم الله موسى عليه {إذ نادينا} أي موسى خذ الكتاب بقوة وقال وهب قال موسى: يا رب أرني محمداً وأمته قال إنك لن تصل إلى ذلك ولكن إن شئت ناديت أمته وأسمعتك صوتهم قال بلى يا رب قال الله تعالى: يا أمة محمد فأجابوه من أصلاب آبائهم. وقال ابن عباس قال الله تعالى: يا أمة محمد فأجابوه من أصلاب الآباء والأرحام أي أرحام الأمهات لبيك اللهم لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. قال الله تعالى: يا أمة محمد إن رحمتي سبقت غضبي وعفوي سبق عقابي قد أعطيتكم قبل أن تسألوني وقد أجبتكم قبل أن تدعوني وقد غفرت لكم قبل أن تستغفروني ومن جاءني يوم القيامة بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبدي ورسولي دخل الجنة وإن كانت ذنوبه أكثر من زبد البحر {ولكن رحمة من ربك} أي رحمناك رحمة بإرسالك والوحي إليك وإطلاعك على الأخبار الغائبة عنك {لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك} يعني أهل مكة {لعلهم يتذكرون} اعلم أن الله تعالى لما بين قصة موسى عليه الصلاة والسلام لرسوله صلى الله عليه وسلم فجمع بين هذه الأحوال الثلاثة العظيمة التي اتفقت لموسى؛ فالمراد بقوله: «إذ قضينا إلى موسى الأمر» هو إنزال التوراة عليه حتى تكامل دينه واستقر شرعه والمراد بقوله {وما كنت ثاوياً في أهل مدين} أول أمر موسى والمراد بقوله إذ نادينا ليلة المناجاة فهذه أعظم أحوال موسى ولما بينها لرسوله ولم يكن في هذه الأحوال حاضراً بين الله أنه بعثه وعرفه هذه الأحوال الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم ومعجزته كأنه قال في إخبارك عن هذه الأشياء من غير حضور ولا مشاهدة دلالة ظاهرة على نبوتك. قوله تعالى: {ولولا أن تصيبهم مصيبة} أي عقوبة ونقمة {بما قدمت أيديهم} يعني من الكفر والمعاصي {فيقولوا ربنا لولا} أي هلاّ {أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين} ومعنى الآية لولا أنهم يحتجون بترك الإرسال إليهم لعاجلناهم بالعقوبة على كفرهم وقيل معناه لما بعثناك إليهم رسولاً ولكنا بعثناك إليهم لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل {فلما جاءهم الحق من عندنا} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم {قالوا} يعني كفار مكة {لولا} أي هلا {أوتي} محمد {مثل ما أوتي موسى} يعني من الآيات كالعصا واليد البيضاء. وقيل: أوتي كتاباً جملة واحدة كما أوتي موسى التوراة قال الله تعالى {أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل} قيل إن اليهود أرسلوا إلى قريش أن يسألوا محمداً مثل ما أوتي موسى فقال الله تعالى: {أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل} يعني اليهود الذي استخرجوا هذا السؤال {قالوا سحران تظاهرا} يعني التوراة والقرآن يقوي كل واحد منهما الآخر وقيل ساحران يعني محمداً وموسى. وقيل إن مشركي مكة بعثوا على رؤوس اليهود بالمدينة يسألونهم عن محمد صلى الله عليه وسلم فأخبروهم أن نعته في كتابهم التوراة فرجعوا فأخبروهم بقول اليهود فقالوا ساحران تظاهرا {وقالوا إنا بكل كافرون} يعني بالتوراة والقرآن وقيل بمحمد وموسى {قال} يا محمد {فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما} يعني من التوراة والقرآن {أتبعه} يعني الكتاب الذي تأتون به من عند الله وهذا تنبيه على عجزهم عن الإتيان بمثله {إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لك} أي فإن لم يأتوا بما طلبت {فاعلم أنما يتبعون أهواءهم} يعني أن ما ركبوه من الكفر لا حجة لهم فيه وإنما آثروا أتباعهم ما هم عليه من الهوى {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين} قوله عز وجل {ولقد وصلنا لهم القول} قال ابن عباس: بينا وقيل أنزلنا آيات القرآن يتبع بعضها بعضاً، وقيل بينا لكفار مكة بما في القرآن من أخبار الأمم الخالية كيف عذبوا بتكذيبهم، وقيل وصلنا لهم خبر الدنيا بخبر الآخرة حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا {لعلهم يتذكرون} أي يتعظون {الذين آتيناهم الكتاب من قبلة} أي من قبل محمد صلى الله عليه وسلم وقيل من قبل القرآن {هم به يؤمنون} نزلت في مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه وقيل بل هم أهل الإنجيل الذين قدموا من الحبشة وآمنوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وهم أربعون رجلاً قدموا مع جعفر بن أبي طالب فلما رأوا ما بالمسلمين من الحاجة والخاصة قالوا: يا رسول الله إن لنا أموالاً فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا بها المسلمين فأذن لهم فانصرفوا فأتوا فواسوا بها المسلمين. فنزلت هذه الآيات إلى قوله {ومما رزقناهم ينفقون} وقال ابن عباس: نزلت في ثمانين من أهل الكتاب وأربعون من نجران واثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من الشام ثم وصفهم الله تعالى فقال {وإذا يتلى عليهم} يعني القرآن {قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا} وذلك أن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كان مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل {إنا كنا من قبله مسلمين} أي من قبل القرآن مخلصين لله التوحيد ومؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم إنه نبي حق.
{أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)} {أولئك يؤتون أجرهم مرتين} يعني بإيمانهم بالكتاب الأول والكتاب الآخر {بما صبروا} أي على دينهم وعلى أذى المشركين (ق) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لهم أجران رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه ورجل كانت عنده أمة يطؤها فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها ثم تزوجها فله أجران» {ويدرؤون بالحسنة السيئة} قال ابن عباس: يدفعون بشهادة أن لا إله إلا الله وقيل يدفعون ما سمعوا من أذى المشركين وشتمهم بالصفح والعفو {ومما رزقناهم ينفقون} أي في الطاعة {وإذ سمعوا اللغو} أي القول القبيح {أعرضوا عنه} وذلك أن المشركين كانوا يسبون مؤمني أهل مكة ويقولون تباً لكم تركتم دينكم فيعرضون عنهم ولا يردون عليهم {وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم} أي لنا ديننا ولكم دينكم {سلام عليكم} ليس المراد منه التحية ولكن سلام المتاركة والمعنى سلمتم منا لا نعارضكم بالشتم {لا نبتغي الجاهلين} يعني لا نحب دينكم الذي أنتم عليه. وقيل: لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه وهذا قبل أن يؤمر المسلمون بالقتال ثم نسخ ذلك بالقتال. قوله تعالى {إنك لا تهدي من أحببت} أي هدايته وقيل أحببته لقرابته {ولكن الله يهدي من يشاء} وذلك أن الله تعالى يقذف في القلب نور الهداية فينشرح الصدر للإيمان {وهو أعلم بالمهتدين} أي بمن قدر له الهدى (م) عن أبي هريرة قال «إنك لا تهدي من أحببت، نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث راود عمه أبا طالب على الإسلام وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي طالب عند الموت:» ياعم قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة قال لولا أن تعيرني قريش يقولون إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك «ثم أنشد: ولقد علمت بأن دين محمد *** من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة *** لوجدتني سمحاً بذاك مبينا ولكن على ملة الأشياخ عبد المطلب وعبد مناف ثم مات فأنزل الله هذه الآية {وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا} يعني نزلت في الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف وذلك أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لنعلم أن الذي تقول حق ولكن إن اتبعناك على دينك خفنا أن تخرجنا العرب من أرض مكة قال الله تعالى {أو لم نمكن لهم حرما آمناً} وذلك أن العرب كانت في الجاهلية يغير بعضهم على بعض ويقتل بعضهم بعضاً وأهل مكة آمنون حيث كانوا لحرمة الحرم. ومن المعروف أنه كان تأمن فيه الظباء من الذئاب والحمام من الحدأة {يجبى إليه} يعني يجلب ويجمع إليه ويحمل إلى الحرم من الشام ومصر والعراق واليمن {ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون} يعني أن أكثر أهل مكة لا يعلمون ذلك. قوله عز وجل {وكم أهلكنا من قرية} يعني من أهل قرية {بطرت معيشتها} أي أشرت وطغت وقيل عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام {فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً} قال ابن عباس: لم يسكنها إلا المسافرون سكوناً قليلاً وقيل لم يعمروا منها إلا أقلها وأكثرها خراب {وكنا نحن الوارثين} يعني لم يخلفهم فيها أحد بعد هلاكهم وصار أمرها إلى الله تعالى لأنه الباقي بعد فناء الخلق {وما كان ربك مهلك القرى} يعني الكافرة أهلها {حتى يبعث في أمها رسولاً} ينذرهم وخص الأم ببعثة الرسول لأنه يبعث إلى الأشراف وهم سكان المدن وقيل حتى يعبث في أمر القرى وهي مكة رسولاً يعني محمداً صلى الله عليه وسلم لأنه خاتم الأنبياء {يتلو عليهم آياتنا} أي أنه يؤدي إليهم ويبلغهم وقيل يخبرهم أن العذاب نازل بهم إن لم يؤمنوا {وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون} أي مشركون. قوله عز وجل {وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها} أي تتمتعون بها أيام حياتكم ثم هي إلى فناء وانقضاء {وما عند الله خير وأبقى} لأن منافع الآخرة خالصة عن الشوائب وهي دائماً غير منقطعة ومنافع الدنيا كالذرة بالقياس إلى البحر العظيم {أفلا تعقلون} أي أن الباقي خير من الفاني وقيل من لم يرجح الآخرة على الدنيا فليس بعاقل. ولهذا قال الشافعي: من أوصى بثلث ماله لأعقل الناس صرف ذلك الثلث إلى المشتغلين بطاعة الله لأن أعقل الناس من أعطي القليل وأخذ الكثير وما هم إلا المشتغلون بطاعة الله تعالى {أفمن وعدناه وعداً حسناً} يعني الجنة {فهو لاقيه} أي مصيبه وصائر إليه {كمن متعناه متاع الحياة الدنيا} أي وتزول عنه عن قريب {ثم هو يوم القيامة من المحضرين} أي في النار، قيل هذا من المؤمن والكافر وقيل نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وأبي جهل، وقيل في علي وحمزة وأبي جهل وقيل في عمار بن ياسر والوليد بن المغيرة.
|